ولا عزاء للسّيّدات – بقلم الشاعرة نهى الخطيب
كان هناك على نفس الطّاولة، وعلى نفس الكرسيّ، وفي نفس الاتجاه، تراه ولا يراها، فالمطعم مزدحم، والنّباتات تحجب الرّؤيا بينه وبينها.
أخبرها النّادل أحمد – الذي طالما ساعدته في دراساته العليا التي يغيب عنها مُكْرَهًا بسبب ظروف عمله القاهرة – أنّه غدا يتردّد على المكان كثيرا في هذه الأيّام، يجلس وحده، يدخّن بشكل مُلْفِت للانتباه، يشرب قهوته، ثمّ ينصرف.
انتابها شعور مُتْعِب، أعادها لنقطة الصّفر بعد مجهود كبير وطاقة فوق العادة للوصول إلى التّوازن والاطمئنان اللّذين هي عليهما، رغم أنّ مساحة في القلب لازالت ذابلة؛ المهم أنّها آمنت أخيرًا بقيمة نفسها، وعرفت متى تنتزعها ممّن لا يستحقها؛ وفوق ذلك آمنت بالمثل الشّائع: ” ليس كلّ ما يلمع ذهبًا “.
لطالما حلمت هند ككلّ البنات في مستواها الثّقافي والاجتماعي، – دون اُحتساب مستواها الجمالي والأخلاقي – أن تقع في حبّ رجل غير تقليدي في عقليّته، فتتزوّجه وتكوّن معه أسرة أساسها الانسجام والتّفاهم، بعد أن أصبحت مُؤهّلة لذلك مادّيا ونفسيّا.
رجل لا يحكمه الخوف والتّردّد من أيّ تغيير يطرأ على حياته، مُخالفًا للمعايير العامّة والأعراف الاجتماعية التي يؤمن بها، حتّى لو كانت بالية رجعيّة.
كانت تريده رجلا يسمع في الصّمت كلمة، وفي نظرة العين معنًى، يقدّر الفنّ، فيبعث لها في رسائله أبياتًا تجود بالمعاني، وأغاني تعوّض الوصف، تكون رجولته هي محرّكه الأساسي، وليس تأثير المجتمع والمحيط، يتبنّى مشاكلها ولو كانت تافهة، يُقدِّر مجهوداتها ويُثْني عليها، يفخر بنجاحاتها ولا يسخر منها ويستصغرها، يطارد أحلامه بكلّ ثقة، يعترف بالإبداع ويمارس هواياته بشغف.
كانت صدمتُها قويّة وهي تكتشف يومًا بعد يوم أنّ الشّخص الذي أعجبت به وأحبّته عنيد وعصبيّ وأنانيّ ليس في ماله، بل في عواطفه تُجاهها، مقابل ذلك يعشق الأولويّة، ويحرص على تقديم ذاته بمبالغة جدّ واضحة.
كثيرا ما غضّت الطّرف عن سلوكيّاته النّرجسيّة بين الأصدقاء والأهل والعائلة، وكانت تبرّر ذلك بأنّ كل العلاقات لها نصيب عادل من الهبوط والصّعود، ولحظات من المدّ والجزر العاطفي، لكنّها أدركت أخيرًا انّ علاقتهما لا تسير في طريق النّجاح أو أنّها لا تسير من الأساس؛ فهي تشعر بعدم السّعادة، تشعر بالملل وكأنّها مضطرّة لهذه العلاقة فقط.
… وجاء اليوم الذي قصمت فيه القشّة ظهر البعير … كانا وجمعًا من الأصدقاء والصديقات وزملاء العمل في ذات المكان الذي يجلس فيه الآن للاحتفال بترقيتها في إحدى الشركات الكبرى التي ذاع صيتها ، هذا الارتقاء الذي سعت إليه بالجدّ والاجتهاد وعزيمة لا تُكْسر ، الكلّ كان يبارك لها ويُثني على مجهوداتها وأنّها تستحق هذا المنصب ، الذي يُخَوِّلُ لها رئاسة الفرع الذي هو موظّف سامٍ فيه ، إلّا هو ، فقد شعر بالخوف على دوره القيّادي ، وسلطته وصورته الذّكوريّة ونبرة الصّوت العالي الّتي ستهتزّ في نظره داخل وخارج البيت مستقبلًا …
صَمَتَ بُرهة ثم قال: نجاح المرة في بيتها ودورها الطبيعي الذي خلقت من أجله، أمّا ما تسعى إليه هند وغيرها من النّساء خارج بيت الزّوجيّة فهو مجرّد إكسسوارات، وأنا عن نفسي لن أسمح لها بالعمل بعد الزواج، فالقِوامة للرّجال، لحكمتهم ودرجة ثقافتهم ووعيهم.
تأمّلته قليلا بسخريّة وهي تمتعض غضبا من الدّاخل وأجابته: القِوامة ليست مجرّد إنفاق، هي أسلوب عطف ورعاية وصيانة وآداب، وليست مجرّد شرع ببغاوات …
ثم أردفت: ومن قال لك أنّني سأقبل بالزّواج منك؟!
أشّرت للنّادل بالقدوم، طلبت منه الفاتورة بكلّ أدب، ادّت عن كلّ الحاضرين تكلفة الطعام والشراب باُستثنائه، شكرت النّادل، ثمّ التفتت إليه قائلة: لا أريد ان أجرح كبرياءك واُنصرفت في ذهول منه ومن الجميع.